الإشاعة: رؤیة قرآنیة (1)

پدیدآورحسن السعید

نشریهمجله رسالة القرآن

تاریخ انتشار1389/02/19

منبع مقاله

share 381 بازدید
الإشاعة: رؤیة قرآنیة (1)

حسن السعید

منذ انطلاقتها الأولی، تعرضت الدعوة الاسلامیة الی حملات دعائیة مضللة، و الی حرب نفسیة مخرّبة... من قبل المشرکین فی مکة، و المنافقین و الیهود فی المدینة و ما حولها، کما تتعرض الأمة الاسلامیة-الیوم-الی الحملات الدعائیة المضللة، و الحرب الهدّامة (1) .و تأتی الاشاعات و الأکاذیب و الأراجیف فی مقدمة المخطط.
فما أشبه اللیلة بالبارحة!.
و ما أشبه الأسالیب الملتویة التی یقوم بها مرجفوا الیوم بأسالیب مرجفی الأمس!.
هنا محاولة لتسلیط الضوء علی الأشاعة...و کیف تعامل معها القرآن، فی واحدة من محطات تاریخ الاسلام.

ظاهرة اجتماعیة قدیمة:

الاشاعة(أو الشائعة) Rumeur ظاهرة اجتماعیة بالغة الأهمیة، و یضاعف من هذه الأهمیة شیوعها فی کل زمان و مکان، و أنها مسلک مألوف من مسالک الجماعات...و تعتبر الشائعات وسیلة مؤثرة من وسائل الدعایة السوداء، و أداة رئیسیة من أدواتها، لأنها تعمل علی بث الذعر، و الکراهیة و تحطیم الروح المعنویة، و اثارة عواطف الجماهیر، و بلبلة أفکارهم، و خاصة فی أوقات الحروب و الأزمات، حیث یستولی علی الناس الخوف و الرعب (2) .
و فی ضوء هذا، فالاشاعة سلاح من أسلحة الحرب النفسیة، یتمثل فی خبر مدسوس کلیّا أو جزئیا، و ینتقل شفهیا أو عبر وسائل الاعلام دون أن یرافقه أی دلیل أو برهان، و یقصد به تحطیم المعنویات (3) .
فمنذ أقدم العصور عرف الاسنان الحرب النفسیة، و أثرها التخریبی فی تماسک الشعوب و الأمم و الجماعات و الأفراد، خصوصا فی حالة الحروب و الأزمات و التحولات الاجتماعیة و الأحداث الجدیدة، فاستخدمها کسلاح هدّام فی صراعه الفکری و العسکری و السیاسی و الاقتصادی...الخ (41) .و قد وجدت الاشاعة حیث وجدت المجتمعات البشریة.و تطورت مع تطور المجتمع، و تبلورت فی ظل کل حضارة و ثقافة، فأخذت أشکالا متنوعة، و قد لعبت الاشاعة دورا فی التاریخ، فادّت مثلا الی موت سقراط بتهمة تحریض الشبان فی أثینا علی التمرد و العصیان (5) و یقول البورت و بوستمان فی کتابهما عن سیکولوجیة الاشاعة أن أباطرة الرومان کانوا یعانون من الاشاعات التی تنشر بین سکان المدن و القری...من أجل ذلک قام کثیر من هؤلاءالأباطرة باستخدام حرّاس الاشاعات للاختلاط بالناس وتجمیع الاشاعات التی یتناقلونها، و ابلاغها للامبراطور فضلا عن اطلاق الاشاعات المضادة (6) .
و قامت الحروب، فی القرون الوسطی، نتیجة للمغالاة فی روایة قصص المعجزات و الجرائم و الأسلاب.و کان لها دور فی التعبئة النفسیة فی اوربا إبّان الحروب الصلیبیة.و من الأمثلة التاریخیة ذات الدلالات، الاشاعة التی ساعدت علی اندلاع الثورة الهندیة ضد بریطانیا عام 1857. فلقد کان الجنود الهنود العاملون فی جیش الهند البریطانی یستخدمون بنادق تملأ من فوهة السبطانة(الماسورة)، و کان علیهم خلال الرمی أن ینزعوا بأسنانهم الورق المشحّم من طرف کل خرطوشة، حتی یسقط البارود فی سبطانة البندقیة، قبل وضع المقذوف فی مکانه، و اعتمدت الاشاعة التحریضیة علی هذا الأمر، إذ انتشرت بین الجنود المسلمین اشاعة تقول بأن الشحم المستخدم هو شحم خنزیر، و خیّل للهندوس بأنه شحم بقر، و قد حاول الانکلیز و قتذاک اقناع الجنود بالقیام بأنفسهم بتشحیم ورق الخرطوش بالسمن النباتی (7) .

تزاید دورها فی العصر الحدیث:

و فی العصر الحدیث تطورت أسالیب الاشاعة، و کانت فترة الحرب العالمیة الثانیة مسرحا مکثفا لانتشار الشائعات علی نطاق واسع، خاصة و أنها استخدمت کسلاخ ذی‏ حدین:للاقناع و الاستقزاز.
و لهذا نجد أن موضوع و الاشاعة من المواضیع التی اهتم بها علم النفس، منذ الحرب العالمیة الثانیة.فلقد لاحظ علماء النفس و المهتمون بالحروب النفسیة أن الاشاعة وسیلة هامة من وسائل الحرب النفسیة یفید منها العدو الذی یوعز الی عملائه ببث الاشاعات التی تبلبل نفسیّة الجماهیر و تفقدها ثقتها بحکومتها و تشککها بجیشها و قواتها المحاربة.و لذلک عکف علماء النفس علی درس الاشاعات و عوامل انتشارها و ما یحدث لها منذ أن تطلق الی تنتشر (8) .
و قد أولت مدارس الدعایة السیاسیة الاشاعة اهتمامها الکبیر، و هذا غوبلز- مهندس الدعایة الهتلریة-نموذج الشائعات المتجولة بصورة منهجیّة، و ینظم دعایة مضادة لتحییدها، سواء من خلال الاتصال الکلامی، أم من خلال الصحافة المطبوعة و الرادیو و السینما، أو أنه کان یلجأ الی «شهود»أجانب، و هم عموما من المحررین المحابین.و کما هو الأمر بالنسبة للنبوءات و التنبؤات و التنجیم لم یکن غوبلز یتردد فی اعطاء تلک الشعوذات تفسیرا رسمیا ملائما لخطط الرایخ.هناک مثال متمیز حول مهارته فی هذا المجال.فی نهایة صیف مهارته فی هذا المجال فی نهایة صیف 1943، انتشرت شائعة حول اعدام عدد من کبار شخصیات النظام، و عمد غوبلز الی المزایدة علی هذه الشائعة، فاعطی أمرا لقطاعاته المتخصصة بنشر شائعة مفادها أن هیملر نفسه قد اعتقل و أعدم.و هذا ما أحدث انفعالا کبیرا و فی اللحظة المناسبة، عاد هیملر الی الظهور فی کل مکان، مما أدّی کضربة مقابلة، الی تدمیر مجمل الشائعات التی انتشرت حول هذا الموضوع.کان الأمر یکمن فی تحطیم شائعة کاذبة من خلال شائعة أخری تفوقها کذبا، ولکن من الممکن اثبات أنها عاریة عن الصحة (9) .
قبال ذلک، کانت أجهزة الحلفاء تقوم بدعایة سیاسیة مضادة، و لجأت فی معرکتها ضد الخصم الی اسلوب تحلیل الوسائل و الخدع التی تلجأ الیها الدعایة السیاسیة المعادیة و فضحها أمام الجمهور، و هذا ما سعی إلیه«معهد تحلیل الدعایة السیاسیة» Institute For ProPaganda Analysisفی الولایات المتحدة الأمریکیة خلال الفترة الممتدة بین عام 1937 و عام 1939.و حاول هذا المعهد أن یحصّن الجمهور ضد کل نوع من أنواع الدعایة السیاسیة معلّما ایاه کشف الخدع الرئیسیة التی یلجأ الیها الخصم.کذلک انشأ صحفی أمریکی، خلال الحرب العالمیة الثانیة، زاویة أطلق علیها اسم«عبادة الشائعة»حیث لم ین یکتفی بتکذیب الأنباء المزیّفة التی تسی‏ء الی معنویات السکان، بل کان یقوم أیضا بتحلیل نفسی لهذه الشائعات بغیة کشف العوامل التی ولدتها و سهلت تداولها (10) .

ما هی الاشاعة؟

الاشاعة، أو الشائعة معناهما واحد... فقد جاء فی المعجم الوسیط أن(الشائعة: الخبر ینتشر و ال تثبّت فیه)و(الاشاعة: الخبر ینتشر غیر متثبّت منه) (11) .
یقول ابن منظور:«شاع الشیب:ظهر و تفرّق.و شاع الخبر فی الناس شیعا و شیعانا...، فهو شائع:انتشر و افترق وذاع و ظهر.و أشاع ذکر الشی‏ء:أطاره و أظهره. و قولهم:هذا خبر شائع و قد شاع فی الناس، معناه قد اتصل بکل أحد فاستوی علم الناس به و لم یکن علمه عند بعضهم دون بعض و الشاعة:الأخبار المنتشرة و فی الحدیث:أیّما رجل أشاع علی رجل عورة لیشینه بها أی أظهر علیه ما یعیبه.
و أشعت السرّ و شعت به إذا أذعت به... و رجل مشیاع أی مذیاع لا یکتم سرا (12) و الی هذا المعنی أشار القرآن الکریم فی قوله تعالی:و إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف اذا عوابه (13) .
و الشائعه أیضا هی:«معلومة لا یتحقق من صحتها، و لا من مصدرها، تنتشر عن طریق النقل الشفوی»کما ورد فی قاموس موریس.
و یعرفها الدکتور مختار حمزه بقوله: «الاشاعات هی الأحادیث و الأقوال و الأخبار الروایات التی یتناقلها الناس دون تأکد من صحتها، و دون التحقق من صدقها.و یمیل کثر من الناس الی تصدیق کل ما یسمعونه دون محاولة للتأکد من صحته، ثم یأخذون یروون بدورهم الی الغیر.و قد یضیفون إلیه بعض التفصیلات الجدیدة، و قد یتحمسون لما یرونه، و یدافعون عنه بحیث لا یدعون السامع یتشکک فی صدق ما یقولون.
و الشائعة-کما یقول الدکتور ابراهیم امام-:«تقوم علی.أساس انتزاع بعض الأخبار أو المعلومات و معالجتها بالمبالغة، و التأکید أحیانا، و بالحذف و التهوین أحیانا أخری، ثم القاء ضوء باهر علی معالم محددة، تجسّم بطریقة انفعایة و تصاغ صیاغه معینة، بحیث یتیسر للجماهیر فهمها.و یسهل سریانها، و استساغتها، و استیعابها علی أساس اتصالها بالأحداث الجاریة و تمشیها مع العرف و التقالید و القیم السائدة (14) .

الأهمیّة و الغموض:

و الاشاعات التی تروّج بین الناس قد تکون عن قصد أو عن غیر قصد...و تلعب الاشاعات المقصودة المغرضة دورا رئیسیا فی أوقات الحروب و الأزمات، لأنها تثیر العواطف، و تترک آثارا عمیقة فی النفوس... أما الاشاعات غیر المقصودة فتسمی ثرثرة أو دردشه...و یجد کل من ناقلها و مستمعها لذة و متعة فی روایتها، دون أن یعلموا أنهم یساعدون علی نشر الاشاعات الکاذبة و الروایات المختلقة (15) .
و لیست کل الاشاعات بالضرورة مختلقة من أساسها، فهناک اشاعات تستند الی حدث حقیقی یتم تشویهه عند اطلاق الاشاعة.و یعتمد انتشار الاشاعة المختلفة أو المستندة الی حدث علی أهمیة موضوعها، و توافر عنصری الاثارة و الغموض فیها (16) ...و القانون الأساسی للاشاعة عبارة عن حاصل ضرب الاهمیّة فی الغموض، و لیس حاصل جمعهما، فإذا کانت الأهمیّة کبیرة و الغموض صفرا فلن تکون هناک اشاعة.کذلک إذا کان الغموض شدیدا فی موقف لا یهمنا، فلن تکون هناک اشاعة...و بتعبیر آخر إذا لم یکن للموضوع أهمیة، فإن غموضه لا یکفی وحده لاختلاق اشاعة، کذلک فإن الاشاعة لن تقوم لها قائمه إذا کانت الأمور واضحة لا غموض فیها (17) .
و یلاحظ ان الغموض قد ینتج عن انعدام وسائل الاتصال و الاعلام، أو فقدان الأخبار الموثوقة، أو أمثال ذلک من الأسباب التی تکثر اثناء الحروب، أو فی البلاد التی مزقتها الحروب، أو فیما بین الجماعات المعزولة کبعض الفرق الحربیة أو بعض الجماعات النائیة.کما قد ینشأ الغموض عن انتشار الأخبار المتضاربة و انعدام الثقة بالسلطات الحاکمة أو وجود رقابة علی الأخبار وسواها (18) أو نقص المعلومات الرسمیة و تضاربها، و سوء الاتصالات و الاستعداد النفسی لتقبّل الاشاعة.و هذا ما یفسر انتشارها بسرعة ابّان الحروب و الاضطرابات و فی المجتمعات المحرومة من الاستقرار الداخلی...بسبب تناقضاتها الحادة، سواء کانت هذه التناقضات اجتماعیة أم دینیة أم عرقیّة (19) .
ففی مثل هذه الأجواء تنتشر الاشاعات الهدّامه التی تتعلق بحیاة الانسان و مصالحه، لاثاره الخوف و الرعب و الفرقة و الخلاف و الضعف، فتثیر الاشاعات المخوّفة من الغلاء و ندرة السلع، أو قوة العدو العسکریة، و تفوقه، أو ضعف قوة الجبهة الداخلیة، أو الفرقة الطائفیة و العنصریة و المذهبیة و الاقلیمیة، أو التشکیک بالشخصیات و القیادات و الکیانات...و الایحاء للآخرین بالشبهات و التهم و ضعف الصف...و تخلخل تماسکه (20) .

اشکالها، سایکولوجیتها:

تقسم الشائعة الی أشکال متعددة، فهناک الشائعة التی تنتقل ببطء من شخص الی آخر، و الشائعة التی تنطلق بضجة فتصل الی أسماع عدد کبیر من الناس خلال فترة زمنیة قصیرة و تکثر فی الکوارث و عند الانتصارات أو الهزائم الساحقة، و الشائعة التی یطلق علیها تسمیة الشائعة الغائصة أی أنها تروج فی البدایة ثم تختفی لتظهر ثانیة عند ما تتاح لها فرصه للظهور.
و یمکن التمیز بین الشائعة التی یطلقها العدو أو عملاؤه، و الشائعة التی تنطلق ذاتیا للتنفیس عن کبت شدید، أو للتظاهر بسعة الاطلاع و المعرفة، أو تفسیر الأحداث بشکل خیالی یبرر التطورات و الأحاسیس العنیفة. و تتعرض الشائعة الی تحریف ناقلیها فیسقطون بعض تفصیلاتها و یرکزون علی البعض الآخر، و یعطونها طابعا مشوقا یزید من خطورتها و قدرتها علی الاقناع (21) . و توجد علاقة طردیة بین شدّة الاشاعة و درجة الصداقة و علاقات الالفة و المحبة التی تقوم بین الأفراد، حیث یسهل سریان الاشاعة عبر العلاقات و التفاعلات التی تقوم بین الأصدقاء و الأقارب.و مع أن الاشاعة تنتقل فی المجتمع ککل إلاّ أنها تبدأ فی اطار هذه العلاقات حیث یکون التفاعل علی أشدّه (22) .
و یمکن تقسیم الاشاعات علی أساس دلالتها و دوافعها الی ثلاثة أنواع رئیسیة هی:اشاعات الأحلام و الأمانی...و اشاعات الکراهیة و العداء...و اشاعات الخوف... (23) و یلاحظ ان الاشاعات قد تنتج عن الخوف، خوف المواطنین، فهم یفتحون آذانهم لالتقاط الاشاعات التی قد یطلقها أناس أبریاء أو جماعة من العملاء و المخربین و الخونة.
و هنا نلاحظ علاقة الاشاعة و انتشارها بوجود الأقلیّات العرقیة أو الدینیة أو القومیة أو سواها و کیف تدور هذه الاشاعات حول هذه الأقلیّات و تتناولها و تهاجمها...
و لقد اجری احصاء فی أمریکا عام 1942 حیث درست ألف اشاعة فوجد أنها تتوزع کالتالی:
66%من الاشاعات کانت اشاعات عداء.
25%کانت اشاعات خوف.
2%کانت اشاعات تمنی.
7%کانت اشاعات من أنواع مختلفة.
و لقد لوحظ أن اشاعات الخوف و التمنی ما لبثت أن تغیّرت طبیعتها باقتراب النصر. علی ان الملحوظ أن غالبیة الاشاعات کانت من طبیعة افترائیة شریرة و تعبّر عن عداء ضد هذه الجماعة أو تلک (24) .
و قد توقف علماء النفس أمام «سیکولوجیة الاشاعة»و أوعزوا الأسباب الرئیسیة لانتشارها الی أنها تقوم بوظیفة مزدوجة؛فهی تفسّر التوترات الانفعالیة التی یستشعرها الأفراد و تنفّس عنها... و معلوم أن اتنفیس المادی و المعنوی یسبب تراخی التوتر، و یقود الی الشعور بالراحة (25) .
و تأسیسا علی ذلک اعتبر علماء الحرب النفسیة الاشاعة من أهم الأسلحة التی یلجأون الیها فی الحرب داخلیا و خارجیا، و تقوم الکیانات السیاسیة باستخدام الاشاعة کسلاح یغتالون به سمعة أعدائهم خلقیا و مسلکیّا و وظیفة و نزاهة، ولکن الاعلام الاسلامی و الرأی العام الاسلامی یرفض اللجوء الی هذا النوع من الاشاعات سواء أکانت فردیة أم جماعیة، و طلب من المسلم أن یری بنفسه عن هذا الدرک السی‏ء من اللجوء الی الاشاعة الکاذبه لتحطیم و تفسیخ المجتمع (26) و قد عالج القرآن الکریم هذا الموضوع الخطیر فی غیر موضع، و تناوله علی أکثر من صعید.

الاشاعة فی القرآن:

لم یأت فی القرآن الکریم ذکر صریح للاشاعة أو مشتقاتها إلاّ مرّة واحدة وردت فی سورة النور و هو قوله تعالی:ان الذین یحبون أن تشیع الفاحشة فی الذین آمنوا لهم عذاب ألیم (27) بید أنها وردت فی مفهومها الشامل و تطبیقاتها و مدالیلها العدیدة فی الکثیر من المواطن و المواقف المشهودة.
و ککل حرکات التغییر الکبری التی‏ ترکت بصماتها علی مسیرة التاریخ، لم تمر الدعوة الاسلامیة بسلام، و من دون ردود فعل مضادة و عنیفة و شرسة.فمنذ أن جهر رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بالدعوة الی اللّه، و عالن قومه بضلال ورثوه عن آبائهم، قرر المشرکون ألاّ یألوا جهدا فی محاربة الاسلام و إیذاء الداخلین فیه، و انفجرت مکة بمشاعر الغضب، و ظلت عشرة أعوام تعد المسلمین عصاة ثائرین، فزلزلت الأرض من تحت أقدامهم، و استباحت دماءهم و أموالهم و أعراضهم، و صاحب کل ذلک حرب عاتیة من الشائعات المغرضة، و السخریة و التحقیر، لتحذیل المسلمین، توهین قواهم المعنویة، و تحطیم نفسیاتهم...فرمی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و صحابته بتهم هازلة، و شتائم سفیهة و أشیعت حولهم الافتراءات و الأباطیل للحط من مکانتهم لدی الجماهیر...
و فی المدینة حیث کثیر عدد المسلمین، فقد اتخذت العداوة للاسلام طریق الدس والنفاق و المخاتلة و ترویج الشائعات، فأسلم فریق من المشرکین و الیهود ظاهرا، و قلوبهم تغلی حقدا و کفرا، و علی رأس هؤلاء عبداللّه بن أبی بن سلول العوفی (28) .
و فی غمرة المواجهة الضاریة...حرص القرآن الکریم علی توعیة المسلمین، و تکوین الحسّ السیاسی و الاعلامی لدیهم، لصیانة الرأی العام الاسلامی، و تحصینه من التأثّر بالاشاعات و الأکاذیب و الأراجیف التی یبثها المندسون و المنافقون و الخصوم، لیکوّن المناعة الفکریة و النفسیة، و یفوّت الفرص علی اولئک المخرّبین، فثبّت الأسس و الموازین اللازمة للانسان المسلم، لیتمکّن من فحص و تمییز الاشاعة و الدعایة الکاذبة و فرزها، و الوقوف بوجهها (29) .
و حینما نستقری آیات القرآن التی تحدثت عن الاشاعات التی روّجها أعداء الاسلام، و اسلوب التعامل معها...نجد نماذج عدیدة لها مبثوثة فی کتاب اللّه، و تکاد تغطّی کل مساحات المواجهة خلال مرحلة النبّوة، و فیما یلی بعض المحطات الهامة (30) .

من أسالیب الدعایة السوداء:

جاء الخطاب القرآنی قویّا مجلجلا، و کان وقعه کالصاعقة علی المشرکین، و لما أعیتهم الحیلةفی مواجهة الحجة بالحجة، و أنّی لهم ذلک؟، انتهجوا ترویج الاشاعات ضد الرسول الأکرم صلّی اللّه علیه و آله و سلّم، باعتباره المثل الأعلی، و ذلک فی محاولة للتسقیط الشخصی، فأخذوا یشیعون أنه: کاهن، و أنه مجنون، و أنه شاعر، و أنه کذّاب، و أنه ساحر...!!
و یقولون إنه لمجنونالقلم:51.
قالوا أضغاث احلام بل افتراه بل هو شاعرالأنبیاء:5.
و قالوا إن هذا إلاّ سحر مبین الصافات:15.
و یقولون أئنا لتارکو آلهتنا لشاعر مجنونالصافات:36.
و قال الکافرون هذا ساحر کذّابص:4.
و فی غمرة انهماک أعداء الاسلام ببث أباطیلهم حول الصادق الأمین صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و ینعتونه بما تواصوا به من سحر مفرق (31) .
و مرّة أخری تخیب ظنون المشرکین، و یرتد کیدهم الی نحورهم...و طفق الناس یقبلون علی کلمة السماء دون أن یعیروا أدنی اهتمام لما یبثّه دهاقنة الشرک... و حینما تیقّن الولید بن المغیرة و أضرابه بعقم محاولاتهم الرامیه الی التشکیک فی شخصیة الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم، و تشویه صورته وصولا الی صرف الناس عن اتباعه و الانقیاد الی دعوته...انتقلوا علی خطوة أخری و اخری..لیمارسوا فی اطارها تجارتهم الخاسرة...و فیما یلی وقفة مع‏ معرکه أحد، کنموذج للمحطات الأخری.

معرکة أحد...نموذجا:

کان یوم أحد یوم السبت للنصف من شوّال (32) سنة ثلاث من الهجرة.و کانت واقعة أحد من أهم الوقائع الاسلامیة الحربیّة التی عاش المسلمون فیها حالة النصر کأفضل ما یکون النصر، ثم حولوها الی هزیمة بفعل الممارسات الخاطئة التی انحرف فیها الکثیرون من المقاتلین عن الهدف الذی یفرض علیهم الانضباط، فیما تقتضیه خطة الحرب من مواقع و مواقف... (33) و بهذا یمکن القول:إن غزوة أحد لم تکن معرکة فی المیدان وحده، انما کانت معرکه کذلک فی الضمیر...کانت معرکة میدانها أوسع المیادین.لأن میدان القتال فیها لم یکن إلاّ جانبا واحدا من میدانها الهائل الذی دارت فیه...میدان النفس البشریة، و تصوراتها و مشاعرها، و أطماعها و شهواتها، و دوافعها و کوابحها، علی العموم...و کان القرآن هناک، یعالج هذه النفس بألطف و أعمق، و بأفعل و أشمل ما یعالج المحاربون أقرانهم فی النزال (34) !.
و کانت موقعة احد فرصه سانحة لکی یعالج القرآن فیها کثیرا من الجوانب الانسانیة المتحرکة فی المعرکة، و یثیر کثیرا من الأجواء...بکل ما حفلت به المعرکة من نقاط الضعف و القوّة، لیثیر فی وعی المسلمین الکثیر من المفاهیم الاسلامیة المتعلّقة بحرکة المعرکة و موقع القیادة فی خط السیر و مدی تأثیر وجودها و غیابها، فی موضوع الالتزام بالمسیرة و الاستمرار علی المبدأ، و یتابع المسلمین فی المعرکة و هم یتأملون و یخالفون و یندفعون و یواجهون الاعداء و ینهزمون أمامهم، و لاحظ کیف تتحکم بهم جوانب الضعف البشری، و وقف معهم لیدفعهم الی مواجهتها بشجاعة المؤمن الذی یعترف بها صراحة فی محاولة لتحویلها الی نقاط قوة بالجهد و الایمان و المعاناة...و أعطانا درسا عملیا فی التأکید علی الجانب السلبی فی الشخصیة التاریخیة بنفس القوة التی تؤکد علی الجانب الایجابی فیها، علی أساس الواقعیة الانسانیة فی الانسان و عدم اغفال الضعف فی التجربة الحیّة بحجة أن ذلک یسی‏ء الی قداسة التاریخ و عظمة أبطاله (35) و کانت هذه الحصیلة الضخمة التی استقرت فی الجماعة المسلمة من وراء الأحداث، و من وراء التوجیهات القرآنّیة بعد الأحداث، أکبر و أخطر-بما لا یقاس-فی حصیلة النصر و الغنیمة...و لا قیمة و لا وزن فی نظر الاسلام للانتصار العسکری أو السیاسی أو الاقتصادی، ما لم یقم هذا کله علی أساس المنهج الربانی، فی الانتصار علی النفس، و الغلبة علی الهوی، و الفوز علی الشهوة، و تقریر الحق الذی اراده اللّه فی حیاة الناس. لیکون کل نصر نصرا اللّه و منهج اللّه، و إلاّ فهی جاهلیة، تنتصر علی جاهلیة... (36) .
و من بین جوانب المعرکة، تبرز الاشاعة کأحد أخطر الأسلحة التی استخدمها المشرکون ضد المسلمین.و لو قدّر لتلک الاشاعة أن تحقق کامل أهدافها لمنی المسلمون بهزیمة مروّعة و لهدّدت دولة الاسلام الفتیّة یوموذاک من الأساس. و المسألة باختصار شدید:
کانت الدولة أول النهار للمسلمین علی الکفار، حیث قتل من هؤلاء سبعون من صنادیدهم، و انهزم أعداء اللّه و ولوا مدبرین، حتی انتهوا الی نسائهم.و حتی شمرّت النساء ثیابهنّ عن أرجلهن هاربات!.
فلّما رأی الرماة هزیمة المشرکین و انکشافهم، ترکوا مراکزهم التی أمرهم رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم ألاّ یبرحوها.
و قالوا، الغنیمة!فذکرهم أمیرهم عهد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فلم یسمعوا، و ظنوا أن للیس للمشرکین رجعة! فذهبوا فی طلب الغنیمة، و أخلوا الثغر فی أحد!.
عندئذ أدرکها خالد(بن الولید)فکّر فی خیل المشرکین، فوجدوا الثغر خالیا فاحتلوه من خلف ظهور المسلمین.و أقبل المنهزمون من المشرکین حین رأوا خالدا و الفرسان قد علوا المسلمین، فأحاطوا بهم!.
و انقلبت المعرکة، فدارت الدائرة علی المسلمین، و وقع الهرج و المرج فی الصف، و استولی الاضطراب و الذعر، لهول المفاجأة التی لم یتوقعها أحد.و کثر القتل و استشهد من المسلمین من کتب اللّه له الشهادة. و خلص المشرکون الی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و قد أفرد إلاّ من نفر یعدون علی الأصابع قاتلوا عنه حتی قتلوا.و قد جرح وجهه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:و کسرت سنه الرباعیّةالیمنی فی الفک الأسفل، و هشمت البیضة علی رأسه، و رماه المشرکون بالحجارة حتی وقع لجنبه، و سقط فی حفرة من الحفر التی کان أبو عامر الفاسق قد حفرها و غطّاها!یکید بها للمسلمین. و غاصت حلقتان من حلق المغفر فی وجنته.
و فی وسط هذا الهول المحیط بالمسلمین صاح صائح:إن محمدا قتل... فکانت الطامة التی هدّت ما بقی من قواهم، فانقلبوا عن أعقابهم مهزومین هزیمة منکرة لا یحاولون قتالا مما أصابهم من الیأس و الکلال (37) !.
قال ابن عباس:و قتادة، و الضحّاک، و مجاهد، انه لما أرجف بان النبیصلّی اللّه علیه و آله و سلّم قتل یوم أحد و أشیع ذلک، قال ناس لو کان نبیا ما قتل.و قال آخرون: نقاتل علی ما قاتل علیه حتی نلحق به (38) .
و حدثت البلبلة و الارتباک، و انکف. الناس عن النبی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و ما بقی معه إلاّ قلیل، و قال البعض:لیتنا نجد من یأخذ لنا الأمان من أبی‏سفیان، و قال آخرون:لو کان محمد نبیا لم یقتل، الحقوا بدینکم الأول...کما یروی المؤرخون ذلک و غیره، فی الخط السلبی للقضیة...أمّا فی الخط الایجابی الذی یمثّل الثبات علی الاسلام حتی فی غیاب الرسول القائد...فتمثّله لنا القصّة التی ینقلها الطبری فی تفسیره..إن رجلا من المهاجرین مرّ برجل من الأنصار یتشحّط فی دمه، فقال للانصاری أعلمت أن محمدا قد قتل، فقال الأنصاری:إن کان محمد قد قتل فقد بلّغ فقاتلوا عن دینکم... ..و فی روایة أخری-یرویها الطبری أیضا-ان أنس بن النضر مرّ بعمر بن الخطاب و طلحة بن عبیداللّه فی رجال نم المهاجرین و الأنصار، و قد ألقوا بأیدیهم فقال أنس:ما یجلسکم؟قالوا:قتل محمد. قال:ان کان قد قتل محمد فان ربّ محمد لم یقتل وما تصنعون بالحیاة بعده، فقاتلوا علی ما قاتل علیه، و موتوا علی ما مات علیه، ثم قال:اللهم إنی أعتذر الیک ممّا قال هؤلاء، و أبرأ الیک ممّا جاءوا به ثم شدّ بسیفه فقاتل، حتی قتل رضوان اللّه علیه (39) .
و کان أصل هذه الشائعة أن مصعب بن عمیر رضی اللّه عنه کان یقاتل دون رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم حین انکشف المسلمون حتی قتل، و کان الذی قتله ابن قمئة اللیثی، و هو یظن أنه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فرجع الی قریش و قال:قتلت محمدا.
و یبدو أن شائعة قتل النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم سرت علی أفواه کثیرة...حتی أن أبا سفیان قائد المشرکین، حین أراد الانصراف بعد انتهاء المعرکة، رأی أن یتحقق من تلک الشائعة و هی قتل محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فأشرف علی الجبل و طلب من عمر بن الخطاب أن یأتیه لیعرف الحقیقه منه.فقال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لعمر:ائته فانظر ما شأنه فجاءه فقال له أبوسفیان أنشدک اللّه یا عمر، أقتلنا محمدا؟قال عمر: اللهم لا، و انه لیسمع کلامک الآن، قال:أنت أصدق عندی من ابن قمئة و أبر.و هو الذی زعم أنه قتل النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.
و من الواضح ان تلک الشائعة التی قامت علی خبر غیر متثبّت من صحته و سرت بسرعة بین المسلمین و المشرکین علی السواء...حیث توهم ابن قمئة، حین قتل مصعب بن عمیر، أنه قتل رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم، ثم أشاع هذا الوهم، لما یعلم من أثر ذلک علی تحطیم قوی المسلمین المعنویة، و تثبیطهم و تخذیلهم لو شاع بینهم.و بالفعل تحقق له بعض ما أراد، حیث صدقها المسلمون و المشرکون علی السواء، لأن النفوس کما قلنا، فی أوقات الحروب یستولی علیها الخوف والقلق و تکون مستعدة لتصدیق کل ما یشاع فی أمثال هذه الأوقات.
لکن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لم یترک هذه الشائعة تسری بین المسلمین دون أن یتصدی لها و یقاومها.و یظهر بطلانها و زیفها، و وجد أن أمضی سلاح لذلک هو أن یظهر بشخصه حتی یراه الجمیع و تخمد الشائعة..لذلک أخذ رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:یصیح بالمؤمنین إلیّ عباداللّه..الیّ عباداللّه..فاجتمع إلیه نحو ثلاثین رجلا...و مضی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یدعو المسلمین إلیه، و استطاع بالرجال القلائل الذین معه أن یصعد فوق الجبل، فانحازت إلیه الطائفة التی اعتصمت بالصخرة وقت الفرار..و فرح النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أن وجد بقیّة من رجاله یمتنع بهم، بعد أن قاوم تلک الشائعة و أخمدها، و عاد الی هؤلاء المسلمین، إذ وجدوا رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم حیّا، وهم یحسبونه قدمات.
و ممّا أنزل اللّه سبحانه و تعالی فی «احد»من القرآن، فی صدد هذه الشائعة، و هی شائعة قتل رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قوله تعالی یعاتب المسلمین الذین سقط فی ایدیهم، و انکسرت همتهم، وترکوا المعرکة یائسین لما أشیع أن الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قدمات:
و ما محمّد الاّ رسول قد خلت من قبله الرسول أفأن أوقتل انقلبتم علی أعقابکم و من ینقلب علی عقبیه فلن یضر اللّه شیئا و سیجزی اللّه الشاکرین آل عمران:144.
فهذه الحادثة التی أذهلت المسلمین هذا الذهول یتخذها القرآن مادة للتوجیه، و یجعلها محورا لاشارات موحیة (40) .
أولا:غیاب القیادة...و حضور الرسالة
حول هذه النقطة یقول السید محمد حسین فضل اللّه:فی هذه الآیة تأکید قرآنی عی أحد المبادی الاسلامیة الإیمانیة، و هو أن غیاب القیادة، مهما کانت عظیمة، لا یوقف المسیرة و لا یلغی الرسالة-المبدأ... لأن عظمة القائدة فی حساب الرسالات لا تجمدها عند حدود حیاته لتنتهی بانتهاء حیاته بل تمثّل-بدلا من ذلک-خطوة أولی نحو الانطلاقة المستمرة فی الدرب الطویل، و مرحلة متقدمة من مراحل العمل، ثم تتبع الخطوة خطوات علی الطریق و تنطلق المراحل الجدیدة علی درب المرحلة القدیمة...فالرسالة هی الأصل و القاعدة.. و القیادات المتتابعة تمثل دور الحملة لها، فقیمتهم بمقدار ما یقدمون لها من خدمات و تضحیات، و عظمتهم بقدر ما یواجهونه من مواقف الصدق و الاخلاص...الأمر الذی یلغی من المسیرة عبادة الشخصیة، التی توحی بأن الشخص هو الأساس، و الرسالة شأن من شؤونه، و میزة من میزاته، و لیس الأمر بالعکس...
و هکذا نجد القاعدة الاسلامیة التی تربط الانسان المؤمن بالرسالة و لا تربطه بالشخص إلاّ من خلال الرسالة فلا تموت الرسالة بموته..ممثلة فی بعض النماذج المؤمنة فی ذلک الوقت (41) .

ثانیا:الارتداد

بعد تقریر هذه الحقیقة و التأکید علیها، ینتقل النص الی استنکار انقلاب البعض علی عقبیه:أفإن مات أو قتل انقلبتم علی أعقابکم؟لیعقب هذا الاستنکار تهدید صریح:و من ینقلب علی عقبیه فلن یضر اللّه شیئا.
و فی التعبیر تصویر حی للارتداد: انقلبتم علی أعقابکم...و من ینقلب علی عقبیه.فهذه الحرکة الحسیّة فی الانقلاب تجسّم معنی الارتداد عن هذه العقیدة، کأنه منظر مشهود.المقصود أصلا لیس حرکة الارتداد الحسیّة بالهزیمة فی المعرکة، ولکن حرکة الارتداد النفسیة التی صاحبتها حینما هتف الهاتف:إن محمدا قد قتل، فاحسّ بعض المسلمین أن لا جدوی اذن من قتال المشرکین، و بموت محمد انتهی أمر هذا الدین، و انتهی أمر الجهاد للمشرکین!فهذه الحرکة النفسیة یجسّمها التعبیر هنا، فیصورها حرکة ارتداد علی الأعقاب، کارتدادهم فی المعرکة علی الأعقاب!و هذا هو الذی حذرهم ایّاه النضر بن أنس-رضی اللّه عنه-
..و کأنّما أراد اللّه-سبحانه-بهذه الحادثة، و بهذه الآیة، أن یفطم المسلمین عن تعلقهم الشدید بشخص النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و هو حی بینهم، و أن یصلهم مباشرة بالنبع.النبع الذی لم یفجره محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم ولکن جاء فقط لیومی إلیه، و یدعو البشر الی فیضه المتدفق.کما أوم ا إلیه من قبل من الرسل، ودعوا القافلة الی الارتواء منه!.
..و کأنما کان اللّه-سبحانه-یعدّ الجماعة المسلمة لتلقی هذه الصدمة الکبری-حین تقع-و هو سبحانه یعلم أن وقعها علیهم هذا التدریب، و أن یصلهم به هو، و بدعوته الباقیة، قبل أن یستبد بهم الدهش و الذهول (42) .

ثالثا:شکر السائرین علی الخط

بعد أن أکدت الآیة الکریمه مبدأ أن الذی ینقلب علی عقبیه، بعد موت الرسول، سوف یضر نفسه..و لن یضراللّه شیئا، لأن رسالات اللّه لا تتوقف أو تتجمد عند کفر کافر أو انحراف منحرف مهما کان دوره، و مهما کانت درجته و طبقته..ثم انعطفت الآیة الی السائرین علی خط الحق فاعتبرت ذلک شکر اللّه کما یجب أن یشکر..و هو ما یمثله الشکر العملی الذی یتحوّل الی موقف للعمل، و لا یظل مجرد کلمة تتحرک فی الشفاه..و وعدت هؤلاء بأن اللّه سیجزیهم علی ذلک جزاء موفورا (43) .

وقفه للتذکیر:

بعد هذا الاستنکار..و التهدید..یمضی السیاق، فی خطوة تذکیریة، الی الحدیث. فی تاریخ النبوات السابقة، لیربط تجربة الحاضر بتجربة الماضی، و لیثیر امام جیل التجربة الجدیدة ما یبعث فیهم روحا حیّة متحرکة تثیر فیهم قوّة الاندفاع و الحرکة (44) و کأیّن من نبی قاتل معه ربیون کثیر فما وهنوا لما أصابهم فی سبیل‏اللّه و ما ضعفوا و ما استکانوا واللّه یحب الصابرین*و ما کان قولهم إلاّ ان قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا و اسرافنا فی أمرنا و ثبّت أقدامنا و انصرنا علی القوم الکافرین*فاتاهم اللّه ثواب الدنیا و حسن‏ ثواب الآخرة واللّه یحب المحسنین آل عمران:146-148.
هنا یضرب اللّه للمسلمین المثل من اخوانهم المؤمنین قبلهم، من موکب الایمان اللاحب الممتد علی طول الطریق، الضارب فی جذور الزمان..من أولئک الذین صدقوا فی ایمانهم، و قاتلوا مع أبنائهم، فلم یجزعوا عند الابتلاء، و تأدبوا-و هم مقدمون علی الموت-بالأدب الایمانی فی هذا المقام.. مقام الجهاد..فلم یزیدوا علی أن یستغفروا ربهم، و أن یجسّموا أخطاءهم فیروها «اسرافا»فی أمرهم.و أن یطلبوا من ربهم الثبات و النصر علی الکفار..و بذلک نالوا ثواب الدارین، جزاء احسانهم فی أدب الدعاء، و احسانهم فی موقف الجهاد.و کانوا مثلا یضربه اللّه للمسلمین.
لقد کانت الهزیمه فی«أحد»هی أول هزیمه تصدم المسلمین، الذین نصرهم اللّه ببدر و هم ضعاف قلیل فکأنّما وقرفی نفوسهم أن النصر فی کل موقوعه هو السنه الکونیّه.فلما أن صدمتهم أحد، فوجئوا بالابتلاء کأنهم لا ینتظرونه (45) !.
تلک هی الصورة فی مجتمع النبوات السابقة..و تلک هی الصورة التی یریداللّه للمجتمع المسلم أن یستعیدها فی نفسه عندما تضیق به الأمور و تحیق به الهزائم و تجتمع فی آفاقه الأزمات و تتضافر علیه قوی الشر، فیسأل اللّه الفرج حیث لا فرج، و المدد حیث لا مدد فتسکن النفس، و یرتاح القلب، و ینفتح للحیاة علی اللّه درب طویل لا نهایة له تخضّر فیه الأرواح، و تنبت فیه کل الجنائن الروحیة التی یزهر فیها الورد و تتفتح فیها براعم الریاحین..و یبدأ الانسان حیاته الجدیدة الامنة المطمئنة فی آفاق اللّه (46) ..

المتربصون یبلبلون الأفکار:

ولن المسألة لم تقف عند هذا الحد، و أحداث المعرکة لم تنته، فاذا ما اسدل الستار علی مشهد من مشاهدها، فسرعان ما تبدأ فصلا آخر، تهدأ فیه قرقعة السیوف..لتستعر حمّی سلاح آخر من نوع آخر..لعله الأخطر..انه سلاح الاشاعة. و لهذا یمضی السیاق خطوة أخری فی استعراض آحداث المعرکة، و اتخاذها محورا للتعقیبات، یتوخی بها تصحیح التصوّر، و تربیة الضمائر، و التحذیر من مزالق الطریق، و التنبیه الی ما یحیط بالجماعة المسلمه من الکید، و ما یبیته لها أعداؤها المتربصون: و لقد کانت الهزیمة فی«أحد»مجالا لدسائس الکفار و المنافقین و الیهود فی المدینة و کانت المدینة لم تخلص بعد للاسلام، بل لا یزال المسلمون فیها نبتة غریبة الی حد کبیر، نبتة غریبة أحاطتها «بدر»بسیاج من الرهبة، بما کان فیها من النصر الابلج.فلما کانت الهزیمة فی أحد تغیّر الموقف الی حد کبیر، و سنحت الفرصه لهؤلاء الأعداء المتربصین أن یظهروا أحقادهم، و أن ینفثوا سمومهم، و أن یجدوا فی جو الفجائع التی دخلت کل بیت من بیوت المسلمین-بخاصة بیوت الشهداء و من أصابتهم الجراح المثخنة-ما یساعد علی ترویج الکیدلوالدس و البلبلة فی الأفکار و الصفوف:
یا ایّها الذین آمنوا إن تطیعوا الذین کفروا یردوکم علی أعقابکم فتنقلبوا خاسرین*بل اللّه مولاکم و هو خیر الناصرین*سنلقی فی قلوب الذین کفروا الرعب بما أشرکوا باللّه ما لم ینزل به سلطانا و مأواهم النار و بئس مثوی الظالمین*و لقد صدقکم اللّه وعده إذ تحسونهم باذنه حتی إذا فشلتم و تنازعتم فی الأمر و عصیتم من بعد ما أراکم ما تحبون منکم من یرید الدنیا و منکم من یرید الآخرة ثم صرفکم عنهم لیبتلیکم و لقد عفا عنکم واللّه ذو فضل علی المؤمنین*إذ تصعدون و لا تلوون علی أحد و الرسول یدعوکم فی اخراکم فاثابکم غمّا بغم لکیلا تحزنوا علی ما فاتکم و لا ما أصابکم واللّه خبیر بما تعملون*و لا ما أصابکم واللّه خبیر بما تعملون*ثم أنزل علیکم من بعد الغم أمنة نعاسا یغشی طائفة منکم و طائفة قد أهمتهم أنفسهم یظنون باللّه غیر الحق ظن الجاهلیة یقولون هل لنا من الأمر من شی‏ء قل إن الأمر کلّه اللّه یخفون فی أنفسهم ما لا یبدون لک یقولون لو کان لنا من الأمر شی‏ء ما قتلنا هاهنا قل لو کنتم فی بیوتکم لبرز الذین کتب علیهم القتل الی مضاجعهم و لیبتلی اللّه ما فی صدورکم و لیمحص ما فی قلوبکم واللّه عیم بذات الصدور*ان الذین تولوا منکم یوم التقی الجمعان إنّما استزلّهم الشیطان ببعض ما کسبوا و لقد عفااللّه عنهم ان اللّه غفور حلیم*یا أیّها الذین آمنوا لا تکونوا کالذین کفروا و قالوا لاخوانهم إذا ضربوا فی الأرض أو کانوا غزّی لو کانوا عندنا ما ماتوا و ما قتلوا لیجعل اللّه ذلک حسرة فی قلوبهم واللّه یحیی و یمیت واللّه بما تعملون بصیر* و لئن قتلتم فی سبیل‏اللّه أو متّم لمغفرة من اللّه و رحمة خیر مما یجمعون*و لئن متم أو قتلتم لإلی اللّه تحشرون آل‏عمران:149-158.
و حین ننظر فی هذه المجموعة من الآیات نظرة فاحصة نجدها قد ضمّت جوانحها علی حشد ضخم من المشاهد الفائضة بالحیویة، و من الحقائق الکبیرة الأصلیة فی التصور الاسلامی، و فی الحیاة الانسانیة.و فی السنن الکونیّة..نجدها تصور المعرکة کلها بلمسات سریعه حیّة متحرکة عمیقه، فلا تدع منها جانبا إلاّ سجلته تسجیلا یستجیش المشاعر و الخواطر، و هی بدون شک أشد حیویة و أشد استحضارا للمعرکه بجوها و ملابساتها و وقائعها، و بکل الخلجات النفسیة و الحرکات الشعوریة المصاحبة لها..من کل تصویر آخر ورد فی روایات السیرة-علی طولها و تشعبها-ثم نجدها تضم جوانحها علی ذلک الحشد من الحقائق فی صورتها الحیة الفاعلة فی النفوس البانیة للتصور الصحیح (47) . سنحاول هنا الوقوف سریعا أمام المشاهد ذات العلاقة بالبحث:
یا أیها الذین آمنوا إن تطیعوا الذین کفروا یردّوکم علی أعقابکم...هذا خطاب للمؤمنین حذرهم اللّه من أن یطیعوا الکفار، و بیّن أنهم إن أطاعوهم ردوهم کافرین.و المعنی بالذین کفروا-کما قیل-صنفان:
أحدهما:قال الحسن، و ابن جریج إنهم الیهود و النصاری أی إن تستنصحوهم و تقبلوا رأیهم یردوکم خاسرین.و قال السدی:أراد إن تطیعوا اباسفیان و أصحابه یرجعوکم کافرین.و الطاعة موافقة الارادة المرغّبه فی الفعل (48) ..و لا یبعد أن یستفاد من السیاق ان الکفار کانوا أیّام نزول الآیات، بعد غزوة أحد، یلقون الی المؤمنین- فی صورة النصح-ما یثبطهم عن القتال، و یلقی التنازع و التفرقة و تشتت الکلمه و اختلافها بینهم، و ربما أیده ما فی آخر هذه الآیات من قوله:الذین قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لکم فاخشوهمالی أن قال:ذلکم الشیطان یخوّف أولیاءه لا تخافوهم و خافون إن کنتم مؤمنین.
و ربما قیل:ان الآیة اشارة الی قول الیهود و المنافقین یوم أحد:«ان محمدا قد قتل فارجعوا الی عشائرکم» (49) .
لقد انتهز الکفار و المنافقون و الیهود فی المدینة ما أصاب المسلمین من الهزیمة و القتل و القرح، لیثبطوا عزائمهم، و یخوفوهم عاقبة السیر مع محمد، و یصوروا لهم مخاوف القتال، و عواقب الاشتباک مع مشرکی قریش و حلفائهم..و جو الهزیمة هو أصلح الأجواء لبلبلة القلوب، و خلخلة الصفوف، و اشاعة عدم الثقة فی القیادة، و التشکیک فی جدوی الاصرار علی المعرکة مع الأقویاء و تزیین الانسحاب منها و مسالمة المنتصرین فیها، مع اثارة المواجع الشخصیة و الآلام الفردیة، و تحویلها کلها لهدم کیان الجماعة، ثم لهدم کیان العقیدة ثم للاستسلام للأقویاء الغالبین.
و من ثم یخدراللّه الذین آمنوا أن یطیعوا الذین کفروا.فطاعة الذین کفروا عاقبتها الخسارة المؤکدة و لیس فیها ربح و لا منفعة. فیها الانقلاب علی الأعقاب الی الکفر. فالمؤمن إمّا أن یمضی فی طریقه یجاهد الکفر و الکفار، و یکافح الباطل و المبطلین، و اما أن یرتد علی عقبیه کافرا-و العیاذ باللّه- و محال أن یقف سلبیا بین بین، محافظا علی موقفه، و محتفظا بدینه..انه قد یخیّل إلیه هذا..یخیّل‏إلیه فی أعقاب الهزیمة، و تحت و طأة الجرح و القرح، أنه مستطیع أن ینسحب من المعرکة مع الأقویاء الغالبین و ان یسالمهم و یطیعهم، و هو مع هذا محتفظ بدینه و عقیدته و ایمانه و کیانه!و هو وهم کبیر.فالذی لا یترک الی الامام، فی هذا المجال لا بد أن یرتد الی الوراء، و الذی لا یکافح الکفر و الشر و الضلال و الباطل و الطغیان، لا بد أن یتخاذل و یتقهقر و یرتد علی عقبیه الی الکفر، والشر و الضلال و الباطل و الطغیان!و الذی له تعصمه عقیدته و لا یعصمه ایمانه من طاعه الکافرین، و الاستماع الیهم، و الثقة بهم یتنازل-فی الحقیقة-عن عقیدته و ایمانه منذ اللحظة الأولی..إنها الهزیمة الروحیة أن یرکن صاحب العقیدة الی أعداء عقیدته.و أن یستمع الی وسوستهم، و أن یطیع توجیهاتهم (50) .ان حالة الهزیمة قد تخلق لدی الانسان وضعا صعبا یؤدی الی الانهیار و الانسحاق و الضیاع فی بعض الأحیان.و قد ینتهی به ذلک الی البحث عن مخرج للمأزق الذی وقع فیه..و قد یتمثل ذلک فی الوقوع فی قبضة مخطط الکفر فی التنازل عن بعض المبادی الأساسیة و فی الدخول فی بعض المشاریع المحرمة، و السیر فی الدروب الملتویة التی لا تؤدی الی خیر و صلاح..و ذلک من أجل الحصول علی الأمن المستقبلی من مراکز القوی المنتصرة و الکافرة (51) ..
و إذا کان مبعث المیل الی طاعة الذین کفروا هو رجاء الحمایة والنصرة عندهم، فهو وهم، یضرب السیاق صفحا عنه، لیذکرهم بحقیقة النصرة و الحمایة:
بل اللّه مولاکم و هو خیر الناصرین فهذه هی الجهة التی یطلب المؤمنون عندها الولایة.و یطلبون عندها النصرة و من کان اللّه مولاه، فما حاجته بولایة أحد من خلقه؟و من کان اللّه ناصره فما حاجته بنصرة أحد من العبید (52) ؟.
و بعد أن یمضی السیاق فی بیان حقیقة قدراللّه فی الموت و الحیاة، و زیف تصورات الکفار و المنافقین عن هذا الأمر، منادیا الذین آمنوا بالتحذیر من أن تکون تصوراتهم کتصورات هؤلاء.و یردهم فی النهایة الی قیم أخری و الی اعتبارات ترجح الالام و التضحیات:
یا أیها الذین آمنوا لا تکونوا کالذین کفروا، و قالوا لاخوانهم، إذا ضربوا فی الأرض أو کانوا غزّی لو کانوا عندنا ما ماتوا و ما قتلوا..و فی مکان لاحق من السورة یأتی قوله تعالی:الذین قالوا لاخوانهم و قعدوا لو أطاعونا ما قتلواآل عمران:168.
و علی ما یبدو، ان هذه التقولات التی کان المتربصون و المخلفون یشیعونها بین صفوف المسلمین قد شقت طریقها الی ذوی النفوس الضعیفة، الذین راحوا، بدورهم، یرددون ما یقوله المتصیدون فی الماء العکر باسلوب آخر، و تساؤل آخر: یقولون هل لنا من الأمر من شی‏ء.. یقولون لو کان لنا من الأمر شی‏ء ما قتلنا هاهنا...»!.
و هذا هو الهاجس الذی یجیش فی النفوس التی لم تخلص للعقیدة حینما تصطدم فی موقعه بالهزیمة، و حینما تعانی آلام الهزیمة!حین تری الثمن أفدح مما کانت تظن، و أن الثمرة أشد مرارة مما کانت تتوقع..و حین تفتش فی ضمائرها فلا تری الأمر واضحا و لا مستقرا، و حین تتخیل أن تصرّف القیادة هو الذی ألقی بها فی هذه المهلکة، و کانت فی نجوة من الأمر لو کان أمرها فی یدها!و هی لا یمکن-بهذا الغبش فی التصور-أن تری یداللّه وراء الأحداث، و لا حکمته فی الابتلاء، انما المسألة کلها- فی اعتّبارها-خسارة فی خسارة! و ضیاع فی ضیاع!.
أمّا اولئک الذین حاولوا خلخلة الصفوف و النفوس فانهم لم یکتفوا بالتخلّف -و المعرکة علی الأبواب-و ما یحدثه هذا التخلف من رجة و زلزلة فی الصفوف و النفوس، و بخاصة ان عبداللّه بن أبی(رأس النفاق)کان ما یزال سیدا فی قومه، و لم یکشف لهم نفاقه بعد، و لم یصفه اللّه بهذا الوصف الذی یهز مقامه فی نفوس المسلمین منهم.بل راحوا یثیرون الزلزلة و الحسرة فی قلوب أهل الشهداء و أصحابهم بعد المعرکة و هم یقولون:لو أطاعونا ما قتلوا...
فیجعلون من تخلفهم حکمة و مصلحة و یجعلون من طاعة الرسولصلّی اللّه علیه و آله و سلّم و اتباعه مغرما و مضرة.و أکثر من هذا کله یفسدون التصور الاسلامی الناصح لقدراللّه.و لحتمیة الأجل، و لحقیقة الموت و الحیاة، و تعلقهما بقدراللّه وحده..و من ثم یبادرهم بالرد الحاسم الناصع، الذی یرد کیدهم من ناحیة و یصحح التصور الاسلامی و یجلو عنه الغبش من ناحیة:
قل فادرأوا عن أنفسکم الموت إن کنتم صادقین.
فالموت یصیب المجاهد و القاعد، و الشجاع و الجبان، و لا یرده حرص و لا حذر و لا یؤجله جبن و لا قعود..و الواقع هو البرهان الذی لا یقبل المراء..و هذا الواقع هو الذی یجبههم به القرآن الکریم، فیرد کیدهم اللئیم، و قر الحق فی نصابه و یثبت قلوب المسلمین، و یسکب علیها الطمأنینة و الراحة و الیقین..
و مما یلفت النظر فی الاستعراض القرآنی لأحداث المعرکة تأخیره ذکر هذا الحادث-حادث نکول عبداللّه بن أبی و من معه عن المعرکة-و قد وقع فی أول أحداثها و قبل ابتدائها..و هذا التأخیر یحمل سمة من سمات منهج التربیة القرآنیة...فقد أخره حتی یقر جملة القواعد الأساسیة للتصور الاسلامی التی قررها، و حتی یقر فی الأخلاد جملة المشاعر الصحیحة التی أقرهنا، و حتی یضع تلک الموازین الصادقة للقیم التی وضعها..ثم یشیر هذه الاشارة الی‏الذین نافقوا.و فعلتهم و تصرفهم بعدها..و قد تهیأت النفوس لادراک ما فی هذه الفعلة و ما فی هذا التصرف من انحراف عن التصور الصحیح، و عن القیم الصحیحة فی المیزان الصحیح.و هکذا ینبغی أن تنشأ التصورات و القیم الایمانیة فی النفس المسلمة، و أن توضع لها الموازین الصحیحة التی تعود الیها لاختبار التصورات و القیم، و وزن الأعمال و الأشخاص، ثم تعرض علیها الأعمال و الأشخاص-بعد ذلک-فتحکم علیها الحکم المستنیر الصحیح، بذلک‏ الحس و الایمانی الصحیح.
و لعل هناک لفتة أخری من لفتات المنهج الفرید.فعبداللّه بن أبی کان الی ذلک الحین ما یزال عظیما فی قومه-کما أسلفنا -و قد ورم أنفه لأن النبیصلّی اللّه علیه و آله و سلّم لم یأخذ برأیه و قد أحدث تصرف هذا المنافق الکبیر رجّة فی الصف المسلم، و بلبلة فی الأفکار.کما أحدثت أقاویله بعد ذلک عن القتلی حسرات فی القلوب و بلبلة فی الخواطر.فکان من حکمة المنهج اظهار الاستهانه به و بفعلته و بقوله، و عدم تصدیر الاستعراض القرآنی لأحداث الغزوة بذلک الحادث الذی قامت به بوصفها الصحیح: الذین نافقواو التعجیب من أمرهم فی هذه الصیغة المجملة:ألم تر الذین نافقوا؟و عدم ابراز اسم کبیرهم أو شخصه، لیبقی نکرة فی:الذین نافقوا کما یستحق من یفعل فعلته، و کما تساوی حقیقته فی میزان الایمان (53) ..
و تصل الاستهانة برأس النفاق و جیش الشرک الی مدیاتها البعیدة، حینما یأتی الغد -بعد یوم أحد مباشرة-فیؤذن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی الناس بطلب العدو، و أذن مؤذنه أن لا یخرجن معنا أحد إلاّ من حضر یومنا بالأمس-کما یذکر ابن اسحق (54) -
و بهذا یکون الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قد وجه الحرب النفسیة ضد الأعداء، و عهد الی توظیف حاذق لها..و ذلک عندما رأی الضعف و الوهن فی جیشه بعد المعرکة و احساس المشرکین بالتفوّق و النصر، أراد أن یحطمّ معنویة الأعداء، و یعید لأصحابة الثبات و القوة المعنویة، فطلب منهم أن یتجهزوا بعید معرکه أحد، و ینفروا لقتال العدو و مطاردته، و هو فی طریق انسحابه الی مکة، لیعرف الناس أن المسلمین ما زالوا اقویاء و لهم القدرة علی شن الهجمات، و أن العدو یتقهقر أمامهم، فیتغیّر الموقف الاعلامی لصالح الدعوة الاسلامیة، فاستجاب له أصحابه، و مارس هذا العمل الجهادی الاعلامی، و حقق عن طریقه نتائج اعلامیة باهرة، فأنزل اللّه سبحاه آیات تثنی علی هذا الموقف، و تعظّم المجاهدین، و تبشّرهم بالانتصار (55) .
قال تعالی:الذین استجابوا للّه و الرسول من بعد ما أصابهم القرح للذین أحسنوا منهم و اتقوا أجر عظیم*الذین قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لکم‏ فاخشوهم فزادهم ایمانا و قوالوا حسبنااللّه و نعم الوکیلآل‏عمران:172-173.
انهم اولئک الذین دعاهم الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم الی الخروج معه کرّه أخری غداة المعرکة المریرة و هم مثخنون بالجراح. و هم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس فی المعرکة.و هم لم ینسوا بعد هول الدعکة، و مرارة الهزیمة، و شدّة الکرب.و قد فقدوا من أعزائهم من فقدوا، فقل عددهم فوق ما هو مثخنون بالجراح!.
ولکن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم دعاهم.و دعاهم وحدهم.لم یأذن لأحد تخلّف عن الغزوة أن یخرج معهم-لیقویهم و یکثر عددهم کما کان یمکن أن یقال!- فاستجابوا..استجابوا لدعوة الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم، و هی دعوة اللّه-کما یقرر السیاق و کما هی فی حقیقتها و فی مفهومهم کذلک-فاستجابوا بهذا للّه و الرسول‏من بعد ما أصابهم القرح، و نزل بهم الضر، و اثخنتهم الجراح.
لقد دعاهم رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و دعاهم وحدهم.و کانت هذه الدعوة و ما تلاها من استجابة تحمل ایحاءات شتی، و تومی‏ء الی حقائق کبری نشیر الی شی‏ء منها:
فلعل رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم شاء ألا یکون آخر ما تنضم علیه جوانح المسلمین و مشاعرهم، هو شعور الهزیمة، و آلام البرح و القرح، فاستنهضهم لمتابعة قریش، و تعقبها، کی یقر فی أخلادهم أنها تجربة و ابتلاء، و لیست نهایة المطاف، و أنهم بعد ذلک أقویاء، و أن خصوصهم المنتصرین ضعفاء، انما هی واحده و تمضی، و لهم الکرّة علیهم، متی نفضوا عنهم الضعف و الفشل، و استجابوا الدعوة اللّه و الرسول.
و لعل رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم شاء فی الجانب الآخر إلاّ تمضی قریش و فی جوانحها و مشاعرها أخیلة النصر و مذاقاته.فمضی خلف قریش بالبقیة ممن حضروا المعرکة أمس، یشعر قریشا أنها لم تنل منالمسلمین منالا.و أنه بقی لها منهم من یتعقبها و یکر علیها...
و قد تحققت هذه و تلک کما ذکرت روایات السیرة..
و لعل رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم شاء أن یشعر المسلمین، و أن یشعر الدنیا کلها من ورائهم، بقیام هذه الحقیقة الجدیدة التی وجدت فی هذه الأرض..حقیقه أن هنالک عقیدة هی کل شی‏ء فی نفوس أصحابها.
..و ینظر الانسان فی هذه الصورة و فی‏ هذا الموقف، فیحس کأن کیان الجماعة کله قد تبدل ما بین یوم و لیلة.نضجت و تناسقت، و اطمأنت الی الأرض التی تقف علیها.و انجلی الغبش عن تصورها.و أخذت الأمر جدا کله.و خلصت من تلک الأرجحة و القلقلة، التی حدثت بالأمس فقط فی التصورات و الصفوف.فما کانت سوی لیلة واحدة هی التی تفرق بین موقف الجماعة الیوم و موقفها بالأمس..و الفارق هائل و المسافة بعیدة..لقد فعلت التجربة المریرة فعلها فی النفوس، و قد هزتا الحادثة هزّا عنیفا.أطار الغبش، و أیقظ القلوب، و ثبت الأقدام، و ملأ النفوس بالعزم و التصمیم.
نعم.و کان فضل اللّه عظیما فی الابتلاء المریر (56) .
و تنتهی معرکه أحد، ولکن المعرکة الدائبة بین الاسلام و أعدائه لم تنته حتی یوم الناس هذا.انّها المعرکة التی تستخدسم فیها کل الوسائل:الجدل و المراء، التشکیک و البلبلة، الکید و الدس، التربص و التدبیر.. و تختلف وسائل الابتلاء و الفتنة باختلاف الزمان، و تختلف وسائل الدعایة ضد الجماعة المسلمة، و وسائل ایذائها فی سمعتها و فی مقوماتها و فی أعراضها و فی أهدافها و أغراضها..ولکن القاعدة واحدة: لتبلونّ فی أموالکم و أنفسکم و لتسمعن من الذین اوتوا الکتاب من قبلکم و من الذین أشرکوا ذیّ کثیرا.
..و یبقی هذا التوجیه القرآنی رصیدا للجماعة المسلمة کلمّا همّت أن تتحرک بهذه العقیدة و أن تحاول تحقیق منهج اللّه فی الأرض، فتجمعت علیها وسائل الکید و الفتنة، و وسائل الدعایة الحدیثة، لتشویه أهدافها، وتمزیق أوصالها..یبقی هذا التوجیه القرآنی حاضرا یجلو لأبصارها طبیعة هذه الدعوة، و طبیعة طریقها، و طبیعة أعدائها الراصدین لها فی الطریق.و یبث فی قلبها الطمأننیة لکل ما تلقاه من وعداللّه ذاک.فتعرف حین تتناوشها الذئاب بالاذی.و حین تعوی حولها بالدعایة، و حین یصیبها الابتلاء و الفتنة..أنها سائرة فی الطریق.و أنها تری معالم الطریق (57) .
و هکذا یوّضح لنا القرآن الکریم الحقائق الأساسیة لمعالم الاسلوب و المنهج الاعلامی کمواجهة أعداءاللّه فی غمرة الصراع الحضاری الذی نخوض غماره.. واللّه المستعان.و هو حسبنا و نعم الوکیل.
***

الهوامش:

(1)مؤسسة البلاغ:«مرتکزات اساسیة فی الاعلام القرآنی، طهران، 1412 ه-1992 م، ص:25.
(2)د.محمد فرید محمود عزّت:«بحوث فی الاعلام الاسلامی»، جدّة، 1403 ه-1983 م، ص:13.
(3)د.عبدالوهاب الکیالی و آخرون:«موسوعةالسیاسة» 3:423، بیروت، 1983.
(4)مرتکزات أساسیة فی الاعلام القرآنی:المرجع السابق.
(5)موسوعة السیاسة:المرجع السابق.
(6)د.أحمد بدر:ءالرأی العام:طبیعته و تکوینه و قیاسه و دوره فی السیاسة العامة، القاهرة، 1977، ص 134.
(7)موسوعة السیاسة:المرجع السابق.
(8)د.فاخر عاقل:«سیکولوجیة الاشاعة، مجلة العربی، العدد(94).سبتمبر 1966، ص:67.
(9)د.فریال مهنا:«تقنیات الاقناع فی الاعلام.
(10)غی دورندان:الدعایة السیاسیة.ترجمة د.ر الف رزق اللّه، بیروت، 1403 ه-1983 م، ص:67.
(11)المعجم الوسیط:الجزء الأول، ط(2)، القاهرة، 1973، ص:503.
(12)ابن منظور:لسان العرب 7:260.
(13)النساء:83.
(14)اعتمدنا فی هذه الاستشهادات علی کتاب«بحوث فی الاعلام الاسلامی»للدکتور محمد فرید محمود عزت ص:14-15.
(15)م.س.
(16)موسوعة السیاسة:المرجع السابق:424.
(17)بحوث فی الاعلام الاسلامی، م.س:16.
(18)سیکولوجیة الاشاعة:م.س.
(19)موسوعة السیاسة:م.س.
(20)بشی‏ء من التصرف من کرّاس:«مرتکزات أساسیة فی الاعلام القرآنی»:42.
(21)موسوعة السیاسة:م.س:423.
(22)بحوث فی الاعلام الاسلامی:م.س.
(23)للمزید من الاطلاع علی أنماط هذه الاشاعات یراجع المرجع السابق:17-18.
(24)سیکولوجیة الاشاعة:م.س.
(25)م.س.
(27)النور:19.
(28)محمد الغزالی:فقه السیرة، ط(7)، القاهرة، 1976، ص:106، 256(نقلا عن کتاب بحوث فی الاعلام الاسلامی، ص:25-26).
(29)مرتکزات أساسیة فی الاعلام القرآنی:المرجع السابق:26.
(30)نقول(بعض)المحطات الهامة..لأننا أغفلنا نماذج الاشاعه التی لم یرد ذکرها فی القرآن کالذی حصل بین مهاجری الحبشة، و فی عمرة القضاء..و کذلک لم نقف ازاء کل الآیات التی عالجت موضوع الاشاعة و اکتفینا ببعضها، علی أمل أن نواصل الحدیث لاحقا إن‏شاءاللّه تعالی.
(31)فقه السیرة:م.س:110.
(32)السیرة النبویة لابن هشام 3:106، بیروت، 1985.
(33)محمد حسین فضل اللّه:من وحی القرآن 6:116، برون 1402 ه-1981 م.
(34)سید قطب:فی ظلال القرآن 1:457(طبعة دار الشروق العاشرة)، 1402 ه-1982 م.
(35)من وحی القرآن:م.س:163-165.
(36)فی ظلال القرآن:م.س:458-459.
(37)المصدر السابق:462.
(38)الضیخ الطوسی:«التبیان فی تفسیر القرآن»3:6 (طبعة بیروت).
(39)من وحی القرآن:م.س:195-196.
(40)بحوث فی الاعلام الاسلامی:م.س:52.
(41)من وحی القرآن:م.س:194-196.
(42)فی ظلال القرآن:م.س.
(43)من وحی القرآن:م.س.
(44)المصدر السابق.
(45)فی ظلال القرآن 1:488.
(46)من وحی القرآن 6:200-201.
(47)فی ظلال القرآن 1:490.
(48)التبیان فی تفسیر القرآن:3:14.
(49)محمد حسین الطباطبائی:المیزان فی تفسیر القرآن 4:42-43(طبعة بیروت).
(50)فی ظلال القرآن 1:491.
(51)من وحی القرآن 6:202.
(52)فی ظلال القرآن 2:491.
(53)فی ظلال القرآن:496، 516.
(54)لمزید من الاطلاع علی وقائع معرکة أحد یراجع کتاب سیرة ابن هشام:3:64-187.
(55)مرتکزات أساسیة فی الاعلام القرآنی:17-18.
(56)فی ظلال القرآن:519-521.
(57)المصدر السابق:540.

مقالات مشابه

زمینه های شکل گیری شایعه و راهکارهای مقابله با آن از نگاه قرآن

نام نشریهمطالعات روش شناسی دینی

نام نویسندهمجید معارف‏, مجتبی میرزایی, فاخره فراهانی

شایعه در قرآن و روایات و امنیت جامعه

نام نشریهلسان صدق

نام نویسندهنهله غروی نائینی, نصرت نیل‌ساز, فاطمه پنبه‌دانه‌زاده

فساد، نتیجه گناه

نام نشریهمکتب اسلام

نام نویسندهفرج‌الله فرج‌اللهی

شايعه؛ بمب ويرانگر

نام نویسندهسلمان اکبری

شايعه درقرآن و روايات

نام نویسندهمحمد مازندرانی

آسيب شناسي شايعه در قرآن (قسمت اول)

نام نویسندهمحمد بهرامی

آسيب شناسي شايعه در قرآن (قسمت دوم)

نام نویسندهمحمد بهرامی

شايعه و آثار منفي آن

نام نشریهروزنامه کیهان

نام نویسندهرضا شریفی

آسیب شناسی شایعه در قرآن

نام نشریهفصلنامه پژوهشهای قرآنی

نام نویسندهمحمد بهرامی